25‏/03‏/2012

الرمز والطاقة الرمزية في الثورة السورية 7

تناولنا في الجزء الماضي المجموعات المسلحة أو الداعية للتسلح والعسكرة.. واليوم نتناول الاتجاه المعاكس تماما.. المجموعات التي تدعوا الى اللاعنف والنضال السلمي.. وهي مجموعات تتناقص على إيقاع العنف المفرط من قبل النظام والعنف المضاد من الجانب المقابل، حتى لم يبق سوى القابضين على الجمر، المتمسكين بقناعتهم بأن أسرع وأفضل طريقة لإسقاط النظام وأقلها كلفة مادية وبشرية هي النضال السلمي غير المسلح أو العنيف..
إن هذه الأفكار والقناعات بطبيعة الحال غير واسعة الانتشار في المجتمع العربي حيث لا تجد دعما او اساسا قويا من التراث العربي الاسلامي الزاخر بتمجيد القوة والجهاد بمفهومه التقليدي.. و رغم أن الرسول "ص" قد قال في حديث شريف عند رجوعه من احدى الغزوات: عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
ولكنه يبدو –رغم تصدره كتب الحديث- وكأنه حشو بين سطور التراث أو يفسر بطريقة تبعده عن مضمونه أو أنها لا تعطيه البعد الرمزي الكاف للتأسيس عليه فبدى وكأنه مجرد استثناء او نص منسوخ "غير مفعل"
وكذلك لا توجد تجارب مهمة في التراث العربي لنهج النضال السلمي.. وربما كان من الاستثناءات القليلة هي الدعوة الاسلامية في مرحلتها المكية..
لكن كتب التراث تختزلها او تصورها بصورة سلبية كمرحلة من الاستضعاف و الابتلاء وعدم القدرة على الانتشار.. وليس كما تحاول أن تبرزها جماعات اللاعنف بأنها مرحلة التأسيس الاخلاقي والسياسي لمرحلة الانقلاب الكبير ومرحلة الانتشار الفكري الذي يسبق الانتشار المادي
اعتقد أن أهمية الرمزية لمجموعات اللاعنف ستكتشف عندما تدرك الثورة السورية أن قدرها قد أعطاها حالة فريدة بين الثورات في التاريخ.. وأن نجاحها مرهون بالتوازن بين النضال السلمي بكل أشكاله "المظاهرات، الاعتصامات، الاضرابات.. العصيان المدني" والنضال المسلح
وأنا لا أقول ذلك من باب التزلف أو استرضاء جميع الأطراف "فأنا مازلت اعتبر نفسي من دعاة السلمية" ولكني أقول ذلك من قراءتي الشخصية للواقع وتطوره في مسيرة الثورة السورية.. فالسلاح والتسلح لم يعد دعوة بل أصبح واقع على الأرض فرضته الظروف والإرادات غير المقتنعة بجدوى السلمية والهواجس اتجاه قمع النظام.. أو.. و أو.. المهم أنه أصبح واقعا لا يمكن تجاوزه واعتقد أن أفضل وسيلة لذلك هي التوازن بين التسلح والفعل المسلح مع العمل الشعبي السلمي
لكن ذلك يتطلب شرطين أولهما زرع القناعة لدى الطرف المسلح بأهمية وجدوى العمل السلمي والثاني يتطلب من الطرف السلمي إثبات جدوى عمله بإنجازات على الأرض.. وذلك يتطلب الكثير من التتضحية والإبداع والصبر..
ولن ننسى الكثير من الابداعات السلمية في مسيرة هذه الثورة وما كان لها من طاقة رمزية دافعة وملهمة
يتبع

23‏/03‏/2012

الرمز والطاقة الرمزية في الثورة السورية 6

انوه فقط أن هذا الجزء والجزء التالي كانا مكتوبين قبيل الحملة الشرسة التي بدأها النظام من بابا عمرو
لقد تناولنا في الحلقات السابقة رموزا من الثورة السورية كأشخاص تحولوا إلى حالة إنسانية أو سياسية تولد الطاقة الدافعة لهذه الثورة.. لكن الرمز لا يقتصر على الأشخاص، وقد يتعداها إلى المجموعات او التشكيلات.. ولعل أبرز الأمثلة، هي الجيش السوري الحر، ليس كأفراد أو أشخاص بعينهم على أهميتهم، وأهمية إبراز اسماءهم وإثباتاتهم الشخصية التي تثبت أنهم جزء من الواقع السوري الجديد، وليسوا نسجا من الخيال او الأوهام التي تداعب الخيال الشعبي زمن الثورات أو التحولات العظمى في تاريخ الشعوب.
فهذا الجيش الذي بدأ بانشقاقات فردية تمثل حالات من الشجاعة الفردية والمخاطرة بالسلامة الشخصية وسلامة ممتلكاتهم وعوائلهم في ظل القمع الأعمى.. والتي تستحق أكثر من مجرد التقدير والاعتزاز
ان اتساع حالات الانشقاق وزيادة التنظيم والارتباط قد جعلت منه قوة –ربما لا تقاس بالمعنى العسكري بالنسبة لجيش النظام- لا يستهان بها على الأرض وجعلت منه رقما صعبا في المعادلة السورية، ولم يعد من الحكمة اهملها او الاستخفاف بها من قبل أي فصيل أو تنظيم بغض النظر عن موقفه الأيديولوجي من هذه الظاهرة الفريدة
لا شك أن التصور أو الحلم بأن تستطيع هذه المجاميع من المقاتلين الشجعان –من مدنيين اضطروا لحمل السلاح والعسكريين الذين أخذوا قرار الانشقاق- بالتصدي للجيش الأسدي المدجج بالأسلحة الثقيلة أو الدفاع عن مناطق محددة على الأ رض لأمد طويل هو تصور بعيد عن الواقعية.. وغير مطابق للحسابات العسكرية بالمفهوم التقليدي
ولكن من ناحية أخرى، لا يمكن الشك أنها  تستطيع خوض حرب عصابات تقوم على الكر والفر لمدة غير قصيرة.. تستطيع استنزاف قوة النظام، بالأخص إذا ما توفرت لها إمدادات السلاح.. وفي ظل حالة الاحتضان الشعبي الكبير لها.. وتجعل أي حل سياسي للأزمة غير واقعي دون أخذها في الحسبان رغم تفاوت موازين القوى على الأرض..
كما أنها قد تنجح –إذا ما أرادت- في توفير الحماية للحراك السلمي في بعض المناطق على الأقل.. ولكن ذلك يتطلب منها التخطيط السليم.. والوعي بأهمية الحراك السلمي وأولويته في مسيرة الثورة.. وهذا يتطلب الكثير من الانضباط والحذر من إغراء السلاح والعسكرة
إن قوات الجيش والأمن التابعة لبشار قد تحولت في ممارساتها إلى قوة احتلال بكل ما لهذه العبارة من معنى.. وذلك يعطي المشروعية القانونية والأخلاقية لمقاومتها
ولا يذكر التاريخ في أي من صفحاته أن المقاومة في أي بلد أوفي أي زمن قد أخذت  موازين القوى بعين الاعتبار! وإلا لما نشأت أية مقاومة في العالم.. ولبقيت أمريكا محتلة من بريطانيا العظمى.. ولبقيت سورية محتلة من فرنسا..
إن قوة الجيش السوري الحر لا تحسب بالكمية العددية.. او من احصاءات قطع السلاح التي يملكها.. بل قوته الأساسية من الطاقة الرمزية التي يمتلكها
لقد أصبح الجيش الحر الرمز الأساسي لتحدي هيمنة النظام.. والوعاء الأكثر استيعابا لشريحة كبيرة من الشباب.. والقوة الدافعة للثورة في مرحلتها الحالية مدعوما بتراث كبير من حكايا البطولة والفداء والاستشهاد.. في التاريخ العربي
ليس غريبا أن نجد كل هذا الحماس و الاندفاع في كل ما يخص الجيش الحر!! وبقدر ما تكون هذه ظاهرة إيجابية يمكن أن تتحول إلى ظاهرة سلبية، وبقدر ما هي قوة دافعة، يمكن أن تدفعنا في الطريق الخاطئ، بالأخص إذا ما سيطر إغراء السلاح وسحره على عقل الثورة وأنستنا بأن أي عمل عسكري قد يتحول إلى عمل عبثي أو حتى إجرامي إذا لم يكن محكوما بمشروع سياسي وقيادة سياسية تحدد مهامه بدقة وتحدد قواعد استخدام القوة.. ودون وجود قيادة عسكرية واضحة السلطة وقادرة على الضبط أثناء الثورة أولا والأهم بعد نجاح الثورة
المتظاهرون في كل أنحاء سورية يهتفون: الجيش الحر.. الله يحميك
وأنا أقول معهم: الجيش الحر.. الله يحميك من النظام.. والله يحميك من كل المنزلقات التي ذكرتها
يتبع

20‏/03‏/2012

سنة ثورة 4 "سقوط الشرعية"

إن أخر ما تحتاجه أو تنشده الأنظمة الاستبدادية هو الشرعية!! بل يمكن أن نقول أنها تبحث عن أغطية شرعية تتدثر بها وليس مفاهيم شرعية تدخل في بنيتها أو تشكل فلسفتها في الحكم
وغالبا ما يكون الغطاء الشرعي هو تبني مشروع قومي كبير او نظرية ايديولوجية لها ما يشبه القداسة تجعل هامش نقدها أو معارضتها أضيق ومواجها بحالة رفض شعبي..
لقد تبنى حكم العسكر الذي استولى على السلطة في آذار 63 المشروع القومي بإديولوجيا حزب البعث بأهدافه الكبرى "وحدة حرية اشتراكية" التي كانت قادرة على تجيش الجماهير ومداعبة عواطفهم..
وبعد استيلاء حافظ على السلطة تبنى شعارات أقل راديكالية.. وانتقل من شعار الوحدة العربية الى الاتحاد ثم إلى التضامن العربي إلى العمل العربي.. ومن التحرير الشامل إلى التوازن الاستراتيجي الى الصمود والتصدي الى المقاومة.. ومع مجيء بشار استبدلت بالممانعة..
وفي كل محطة كان التجيش الإعلامي يستخدم بطاقاته القصوى.. وهذا النوع من الأنظمة الاستبدادية كان بارعا في استخدام الاعلام التقليدي للتجيش "في ظل انعدام المنافسة، والسيطرة على كل وسائل الاعلام، وتسخير موارد كبيرة له"
لكنه فشل في استخدام الإعلام الجديد رغم عدم بخله في الانفاق المسرف عليه لكنه فقد السيطرة في ظل المنافسة الشديدة وتوافر الامكانيات في الاعلام البديل للعموم
ان التحكم الاعلامي "الديمغوجيا" بالنسبة لنظم الاستبداد هي أساس الشرعية المزعومة.. انها شرعية اهداف او مشاريع او انجازات منسوجة من الوهم لا ظل لها على الأرض.. مع ذلك فقد نجح في مراحلها السابقة باستقطاب فئات غير قليلة بالتصديق او الاقتناع او بالتقية.. بما ضمن له الحد الأدنى من الاستتار والاستمرار.. قبل أن تأتي وسائل الإعلام البديل وتنتشر بشكل واسع في المجتمع وباستغلالها بشكل فعال في المرحلة الأخيرة مستعينة بالخبرات التي تكونت في الربيع العربي استطاعت اسقاط  هذه الستارة الإعلامية المحيطة بعورة النظام وتركته عاريا بكل قبحه
لقد اسقطت كذبة الممانعة.. وكذبة الآمان والاستقرار.. التي كانت العامود الفقري لشرعيته المزعومة
وإذا ذهبنا إلى الشرعية بمفاهيم الأنظمة الديمقراطية نجد أنها ثلاثة أقسام "شرعية الوصول، شرعية التمثيل، شرعية الانجاز" لنقيسها على النظام السوري "ان جاز لنا القياس" فشرعية وصول بشار –بتعديل هزلي للدستور- لم تكن مقنعة حتى لكثير من الموالين للنظام لذلك كانت المسكوت عنه في اعلام النظام.. أما شرعية التمثيل فقد حاول النظام اللعب عليها كثيرا بأن بشار شاب وهو يمثل جيل الشباب الذي يشكل الأغلبية.. وهو أكاديمي ويمثل شريحة واسعة.. الخ ولكنه كان ممثلا فاشلا لهذا الدور في مسرحية هزلية.. وانتهى إلى ممثل للشبيحة أو طائفة أو فئة لا أكثر
كذلك الأمر بالنسبة لشرعية الانجاز في عهد بشار خلال عشر سنوات التي كانت أكبر فضيحة للنظام وانصاره
وقد يقول البعض ان استخدام النظام للرصاص الحي ضد المتظاهرين السلميين قد أفقده كل شرعية، وأنا أقول أن ذلك ليس له علاقة بشرعية الحكم بل ذلك ما حوله لعصابة مسلحة.. تقترب من صفة قوة احتلال تشرعن كل اشكال المقاومة ضدها
ربما تكون الستارة الشرعية هي أضعف قوائم عرش الاستبداد.. ولكن سقوطها يكتسب أهمية كبيرة في فك ارتباط فئات غير قليلة عنه، والأهم تسويغ مشروعية المقاومة وتوفر لها الحاضنة الشعبية اللازمة لإزالة أنقاض النظام الساقط وانتشال الشعب من تحت الحطام.. ولا شك أن هذا السقوط سيكون له كثير من الضحايا يتوقف عددها على قوة السقوط وبراعة عملية الانقاذ    

19‏/03‏/2012

سنة ثورة 3 "سقوط القوة "

تناولنا في الجزأين الأولين سقوط الخوف، وسقوط الرمز، واليوم نتناول سقوط القائمة الثالثة من قوائم الاستبداد
لا شك أن صناعة أي ديكتاتور عبر التاريخ كانت محتاجة لاستخدام العنف بمختلف أشكاله "الجسدي، النفسي.. والمادي" وبمختلف درجاته.. في مرحلة محددة على الأقل.. أو على امتداد فترة حكم الديكتاتور وان اختلفت الدرجة..
ولكن لا شك أيضا، والذي أثبتته الدراسات النظرية والتجارب العملية أن التهديد باستخدام القوة أكبر تأثيرا بكثير من الاستخدام الفعلي للقوة
ولكن التهديد باستخدام القوة والعنف لا يكون له تأثير يذكر دون الاستخدام الفعلي لها لمرة واحدة على الأقل.. لأن ذلك ما يخلق الخيال الإنعكاسي الذي يخلق تصورات عن تلك القوة الغاشمة تفوق حدود قدراته بكثير.. وترسم تصورات لأسوأ الاحتمالات الممكنة وإن كانت احتماليتها تكاد تكون معدومة!!
لقد برع المقبور –كديكتاتور- في اللعب بثنائية استخدام العنف والتهديد به إلى درجة خلقت تصورات مخيفة لدى شريحة واسعة من السوريين جعلتهم يتحسبون في أحاديثهم لأقرب الناس بل حتى في مناجاتهم الداخلية.. فما بالك بالتفكير في أي تحرك إيجابي؟!!
وعندما بدأ عهد بشار كان استمرارا طبيعيا لعهد أبيه.. وقد استطاع إيقاف ربيع دمشق 2001 باستخدام التهديد بالدرجة الأولى، واكتفى باعتقال عشرة ناشطين فقط وملاحقة أو مضايقة المئات فقط.. وقد خدمته الظروف الدولية وقتها واستفاد من الإرث المرعب لنظام أبيه المقبور
ولكن غالبا –ان لم نقل دائما- يؤدي الاستخدام المفرط أو الطويل للعنف إفقاده قدرته الرمزية التي هي مكمن قوة تأثيره على الآخرين اللذين هم الهدف الحقيقي لا المعنف بذاته..
إن أقرب مثال على ذلك هو ما قامت به أمريكا في العقدين الآخيرين.. فباستخدامها العنف المفرط الخاطف في حرب العراق الأولى قد خلق حالة رعب عالمي من بطش هذه القوة وأدى للإذعان لها كقطب أوحد.. في حين أن الاستخدام المفرط للقوة بشكل مديد في أفغانستان والعراق قد أفقدها هيبتها وخلق الرغبات في تحديها إقليميا ودوليا
لقد وقع نظام بشار في نفس الخطأ نتيجة تصور مغلوط في مواجهة رياح الربيع العربي، حيث كانت قراءته للأحداث في مصر وتونس بأن تأخر استخدام العنف المفرط هو ما سمح للاحتجاجات بالاتساع فاتخذ القرار بجر المجتمع لمواجهة مبكرة قبل استكمال تحضيراتها أو تطوير وسائلها والمواجهة بعنف مفرط جدا خارج حدود المعقول لوأد أي رغبة أو أمل في التحرك.. وهذا ما يفسر القسوة التي مورست على أطفال درعا، واستفزاز أهاليهم "وهي ليست حماقة عاطف نجيب بل قرار النظام الأمني"
وكذلك كان قرار مواجهة أول مظاهرة في درعا برصاص حي غزير جدا جدا، لا يفسره أو يبرره حجم تلك المظاهرة او موقعها او مطالبها..
ولكن فشل سياسة الصدمة الأولى في وقف الحراك.. واستمرار سياسة استخدام العنف وتصاعده من قوى الأمن إلى خليط من الأمن والشبيحة.. إلى استخدام الجيش ثم دخول الدبابات والمصفحات والأسلحة الثقيلة.. قد أفقد هذه القوة هيبتها ورهبتها.. وتأثيرها المستهدف
فعند دخول المدرعات إلى المدن أول مرة كان منظرها مرعب للكثيرين، ولكن بعد أسابيع من وجودها أصبحت منظرا معتادا لا يخلق أي شعور بالخوف أو الرهبة.. وكذلك الحال بالنسبة لأصوات الرصاص، ومناظر الدماء والشهداء..
لقد فقد خيار النظام باستخدام العنف حتى في ذروة قسوته القدرة على خلق الخوف المؤدي للإذعان الذي قلنا أنه جوهر نظام الاستبداد، وأصبح مجرد عنف محض بدون هدف محدد
إن هذا النوع من العنف قد يؤدي للسخط  والغضب ورغبة التمرد أو رغبة الانتقام..أو.. ولكنه لا يمكن أن يؤدي للاستسلام والخضوع من جديد
إن ما يفعله النظام الآن ليس حلا أمنيا – كما يدعون- ولكنه خيار انتقامي موتور يستهدف تخريب مرحلة ما بعد نظام بشار.. ورفع كلفة إزالته فقط.. دون أي تغيير في حقيقة أن النظام قد سقط.. سقط.. وليس سيسقط
فالأنظمة الديكتاتورية تسقط عندما يسقط الخوف من قلوب رعيتها.. عندما تسقط هيبتها.. عندما يسقط تأثير خيار العنف.. وعندما تسقط شرعية وجودها وهذا ما سنتناوله في الجزء الأخير
يتبع

17‏/03‏/2012

سنة ثورة 2 "سقوط الرمز"

إن الأساس الثاني للنظم الاستبدادية هو قدسية الرمز الذي يكون غالبا رأس النظام وفي الحالة  السورية كان حتما رأس النظام وقد بذلت جهود كبيرة إعلامية وأمنية في سبيل بناء هذه الهالة القدسية حول صورة رأس النظام "حافظ" وصلت حدود التأليه.. وربطت اسم البلد باسمه وصورتها بصورته التي كانت تتصدر كل زاوية من زوايا مؤسسات الدولة.. وتتربع تماثيله وسط الساحات العامة والذرى المطلة على المدن.. لإعطاء الشعور بأنه موجود في كل مكان "تشبيها بالذات الإلهية"
وكانت تهمة الإساءة لشخص الرئيس يعاقب عليها بأشد العقوبات من قبل أجهزة الأمن قد تصل للتصفية الجسدية او السجن لمدة طويلة.. لخلق الرهبة اللازمة للحفاظ على النظام ككل وضمان تماسكه من خلال ذلك.. ولا يمكن أن ننكر أنهم نجحوا في ذلك إلى حد بعيد
وعندما جاء التوريث لبشار استمرت السياسة نفسها بالنسبة لرأس النظام، رغم محاولة تسويقه بشكل مختلف وأنه طلب عدم وضع صوره إلا في الدوائر الرسمية.. ولكن ما لبثت أن عادت حليمة.. بالأخص بعد 2003 وبتكريس سياسة "منحبك"
استطاعت الثورة السورية خلال أربعين يوما أن تدمر ما تم تشيده في أربعين عاما.. منذ اللحظة التي تم فيها تدمير تمثال المقبور في درعا ونزع صورة المخلوع عن نادي الضباط في حمص.. التي قوبلت بالإنكار من قبل إعلام النظام في البداية..
ولكن تدرج تصاعد هتافات الثورة من الإصلاح إلى الشعب يريد إسقاط النظام.. إلى الشعب يريد إسقاط الرئيس.. جعلت المعركة مكشوفة للطرفين.. ولكن الثورة قد أبلت بلاء حسنا –عن وعي أو عدم وعي- في تدمير الهالة القدسية حول بشار وأبيه أيضا.. فمن يوم خصص لإحراق الصور تم خلاله إحراق كم هائل من صورهما بطرق مبتكرة أمام العدسات.. إلى اليوم الذي خصص للعنة روح حافظ الذي حدد في ذكرى رحيله.. ولتصبح منذ ذلك اليوم أيقونة الثورة والهتاف الأكثر إثارة في كافة المناطق
وبين هذا وذاك جاءت حادثة مهمة كشفت حساسية ذلك بالنسبة للنظام.. ففي يوم من أيام الثورة المشهودة، في مظاهرة حاشدة في حماة، ظهر شاب يترنم بأغنية ساخرة تتناول رؤوس النظام مباشرة..
يومها سرت إشاعات أن النظام بأوامر من أعلى مستوياته يريد رأس هذا الشاب –الذي كان مجهولا يومها- بأي ثمن.. وبعد أيام وجد إبراهيم قاشوش مقتولا ومقطوع الحنجرة.. ليصبح أهم رمز من رموز الثورة.. ولتصبح أغنيته أيقونة من أيقوناتها الخالدة
لقد كانت صيحته الضربة التي أسقطت الزجاج المهشم على الأرض فأثار ضجيجه جنون النظام.. واتخذ قرارا انفعاليا جاء بنتائج عكسية تماما.. فقد لفتت نظر الثورة لأهمية الموضوع فكرست جهود خارقة في السخرية المفرطة من النظام بالأخص رأسه، عبر الأغاني ومقاطع الميديا والنكات.. دمرت صورته حتى بين الفئة التي من المفروض انها رصيده المتبقي، فحتى هتافاتهم أخذت نفس نغمة القاشوش كدليل على مدى عمق تأثيرها فيهم.. وصارت هتافاتهم  للرد على هتافات الثورة.. لقد أصبحوا بدور المنفعل في موقع الدفاع اليائس.. فالصورة الرمزية كالزجاج لا يمكن اصلاحه بعد تحطمه.. وانا على ثقة ان حتى كبار المنحبكجية في داخلهم تحطمت صورة بشار وانهم كلما سمعوا صوته يقولون تضرب.. وروح صلح حرف الإث.. ويتذكرون خطابات سونغا.. ونكات الحماصنة..
لم تحطم الثورة الهالة القدسية حول رأس النظام فحسب بل دمرت شخصيته تماما ودمرت أي بديل دكتاتوري محتمل.. ودمرت كل محرمات سياسة الاستبداد وحطمت مفاصلها..
وفي النهاية لا يفوتنا أن نذكر بأن أهم مساهم في عملية التدمير التي ذكرناها هو بشار نفسه.. فبكلامه وطريقة ظهوره وانفعالاته الشخصية.. كان مادة دسمة لمواقع التواصل الاجتماعي.. ومعين لا ينضب للسخرية المرة التي جعلت من المستحيل بقاءه على رأس نظام استبدادي.. لأنه لم يعد هناك إمكانية لحياة الاستبداد في سورية بعد عام من استمرار الثورة..
يتبع

16‏/03‏/2012

سنة ثورة 1 "سقوط الخوف"

بعد عام كامل على انطلاق الثورة السورية يتسآل بعض المخلفين: ماذا حققت الثورة!!؟
ماذا حققت الثورة!!؟
بكل بساطة الثورة استطاعت إسقاط نظام من أعتى الأنظمة الاستبدادية في التاريخ الحديث
نعم، وأنا بكامل وعيي أقول أن نظام حافظ قد سقط.. ولا أقول سيسقط
إن أي نظام استبدادي يقوم على مجموعة قوائم، أولها وأهمها الخوف.. وهنا لا أعني الخوف كشعور بشري لا يستطيع احد سوي من البشر أن ينكر وجوده لديه.. ولكن ما أعنيه هو الخوف المفضي للإذعان لقوة غاشمة تترسخ في النفس اللاواعية بأنها قوة غير قابلة للزوال أو التزعزع.. وغير ممكنة المقاومة.. وتترسخ القناعة الداخلية بأنه لا طريقة للتعامل معها إلا بالإذعان لإرادتها دون أعتراض او ممانعة..
فإذا كانت الأنظمة الديمقراطية الحديثة تقوم على مبدأ العقد الاجتماعي فإن الأنظمة الاستبدادية تقوم على مبدأ عقد الإذعان الذي تتخلى بموجبه مجموعة بشرية عن حقوقها السياسية لسلطة مستبدة مقابل استقرار بشكل ما.. يتم قبوله العام نتيجة الخوف من عواقب أشد.. "وقد لعب النظام على هذا الوتر منذ البداية دون جدوى"
هل يشك أحد اليوم أن هذا الحاجز قد تحطم في سورية.. وأن الشرخ الصغير الذي أحدثته الأصابع الصغيرة في درعا قد اتسع وتشعب من بلدة لبلدة، ومن محافظة لأخرى حتى انهار نهائيا عندما اصبحت خارطة الثورة مطابقة تقريبا لخارطة سورية.
اليوم قد يكون هناك بعض الخائفين.. والكثير من المتخوفين.. والكثير من المستفيدين من وضع النظام أو ممن ربطوا مصيرهم بمصيره.. ولكن ذلك لا يغير الحقيقة بأن أهم ركيزة للنظام انهارت.. وأن هذا موضوع لا يقاس بالعدد.. كم مع؟ وكم ضد؟ وكم على الحياد؟.. لأن هذا من صفات الأنظمة الديمقراطية ولا ينطبق على انظمة الاستبداد المطلق.. وان الاختراق مجرد الاختراق يعادل الانهيار.. لقد أدرك النظام ذلك مبكرا، فبعد أن فشل رهانه بأن يصد حاجز الخوف –الذي شيده عبر أربعين عاما- وصول رياح الربيع إلى عقر داره.. فراهن بعد بدأ الأحداث في درعا على رفع الحاجز باستخدام مفرط –أكبر من المعقول- للعنف في سبيل قمعه.. ثم فشل رهانه الثالث في منع امتداده خارج حوران.. وفشلت بعدها كل رهانته الاخرى من اللعب على عامل الوقت وضغط الحاجات المعيشية.. حتى وصل إلى احتلال المدن عسكريا مع أقصى طاقات التدمير.. مع ذلك لم يستطع ولن يستطيع الترميم لأن الانهيار لا ينفع معه ترميم.. ولعل أصدق ما قيل في وصف ذلك ما ذكره معاون وزير النفط المنشق ردا على مقولة النظام انه يسيطر على الأرض: بأنه لا يسيطر إلا على موطئ الدبابات..
والحقيقة ان الأرض والشعب والزمن معا خارج نطاق سيطرة بشار المنهار
يتبع

11‏/03‏/2012

اصدقاء سورية 5 "العدو الصامت"

ما بين أعدقاء سورية الذين صوتوا مع قرار الأمم المتحدة وأعدقاء سورية الذين صوتوا ضد القرار يوجد قليل من الأصدقاء الحقيقيون!!.. ولكن يوجد عدو حقيقي واحد..
والغريب أن كلاما كثيرا.. كثيرا من كل الاطراف القريبة والبعيدة قيل خلال الأزمة.. والأغرب أن العدو هو كان أقل المتكلمين على الإطلاق!! وكأن الأحداث تدور على بعد آلاف الأميال عنه!!
رغم أن هذا العدو المختلق لديه حساسية مفرطة اتجاه أي تغيير يحدث من حوله إلى درجة مرضية.. حتى أنه عندما دخلت دبابات الجيش المصري إلى مدينة السويس لحفظ الأمن في 18 يناير 2011 استنفر الجبهة الجنوبية رغم معاهدة السلام واجهزة الإنذار المبكر والمنطقة المنزوعة السلاح..
في حين أن شهورا من تحرك الدبابات على تخومه لم تدفعه لاستنفار الجبهة الشمالية.. ولم يعترض لا رسميا ولا اعلاميا على اختراق مناطق الهدنة من قبل النظام السوري ودباباته.. فهل من المتصور كم هو مطمئن من جانبه!!! إن لم نقل كم هو التنسيق بينهما!!؟
إن أربعين عاما من السكون على هذه الجبهة -التي كانت الوحيدة العصية على الاختراق- جعلته يخرج عن صمته في بعض الأحيان.. ليس أقلها تصويته مرتين ضد قرار إدانة النظام من مجلس حقوق الإنسان والأمم المتحدة.. ولم يعد خافيا أنه حاول ممارسة ضغوطه على فرنسا –صديقنا اللدود- وأمريكا –صديقنا الألد- لتغيير موقفهم من نظام بشار
ولا أعرف بأي منطق يمكن أن نفسر ذلك؟!
ولكن ما أنا متأكد منه.. وما أريد أن ألفت النظر له: أن هذا العدو الصامت  الآن.. الكامن لدرجة يبدو معها وكأنه لا تأثير مباشر له على ما يجري في سورية لن يكون كذلك عندما ترجح كفة الثورة.. بالأخص إذا ما أخذت الطريق السليم باتجاه بناء دولة قوية..
ولن يتورع عن استخدام كافة الوسائل – بما فيها القوة العسكرية بمختلف أشكالها- لإجهاض ذلك..
فليكن ذلك في حسابات كل من يعمل من أجل الثورة السورية.. لنكون كفيلين بأعدائنا إذا ما أجارنا الله من أصدقائنا السبعين اللذين اجتمعوا في مهد الثورة العربية
تم

09‏/03‏/2012

أصدقاء سورية 4 "الأعدقاء ب "

ما قلناه سابقا عن الأعدقاء الأمريكان  قد لا ينطبق تماما على الأعدقاء الفرنسيين.. بسبب الاختلاف البنيوي بين الدولتين وعدم تطابق المصالح في المنطقة
فالأعدقاء الفرنسيون الذين مازالوا يتاجرون بثورة يدعون أنها أسست للمبادئ الإنسانية "حرية، عدالة، مساواة" ومن بعدها استأنفت مسيرة الاستعمار والتميز العنصري والهيمنة الإمبريالية مدشنة القطيعة النهائية بين فرنسا الثورة وفرنسا الدولة..
فإذا كانت روسيا صديقنا الأحمق وأمريكا عدونا غير العاقل فإن فرنسا هي عديقنا الحائر
فسياستها اتجاه المنطقة غير ثابتة أو محكومة بمعايير واضحة.. فمحتلنا القديم مازال لديه أضغاث أحلام من زمن الاستعمار.. مختلطة برواسب من زمن الثورة وهواجس من مستقبل الدولة العظمى بعد سن اليأس.. يرافقها أزمة بنوية للدولة وأزمة اقتصادية حقيقية لا تبدو قصيرة الأجل..
إن كل ذلك لا يجعلنا متفائلين بدور فرنسي فاعل في المعضلة السورية أو أي ملف من ملفات المنطقة..
ولا ننسى طبعا أن فرنسا كانت أول من قبل بإعطاء التوريث في سورية شرعية دولية باستقبالها بشار في الإلزيه استقبال الرؤساء حين لم يكن له صفة رسمية او منصب حكومي.. وقد روجته أوربييا كذلك وساهمت في القبول الأمريكي أيضا.. وكانت أسرت عبر قنوات غير رسمية لبعض اصدقائها بأن لديها ضمانات لتغيرات ديمقراطية مهمة مقابل ذلك القبول.. لكنها لم تحرك ساكنا عندما قلب بشار ظهر المجن.. ووأد ربيع دمشق 2001 ولم يتغيير موقف العديق الفرنسي من نظامه إلا بعد اغتيال الحريري "ونعلم بعض ملابسات ذلك"
إن صفة العديق الحائر تنطبق أيضا على محتلنا الأسبق "التركي طبعا" بل إن حالته قد تتجاوز حالة الحيرة إلى ما يرقى لانفصام الشخصية.. فما بين الأقوال والأفعال بون شاسع وما بين الرغبات والسياسات على أرض الواقع بون أوسع..
فسياسة تصفير المشاكل مع الجوار التي روج لها أغلو منذ بداية حكم العدالة والتنمية.. اصطدمت بسياسات استفزازية وعدائية من إسرائيل وإيران والأكراد قبل بداية الأزمة السورية.. فالفارق كبير بين الأفكار المثالية والسياسة الواقعية.. وهذا ما جعل من الموقف التركي يبدو بالنسبة للسوريين "المضحك المبكي" في آن معا
ونحن ندرك الآن بأنه لا غنى عن موقف وثقل تركيا في أي حل للمعضلة السورية.. ولا يمكن أيضا الاعتماد على الموقف التركي بوضعه الحالي.. والله المستعان على ما تصفون
من ضمن المواقف المحيرة أيضا مواقف الأشقاء في الخليج بالأخص السعودية وقطر.. فرغم وضوح مواقفها في دعم الحراك الشعبي السوري  الذي يصل حتى حد التسليح.. فإن هناك نقطة ضعف رهيبة لديها تقوم بتصديرها للثورة السورية عن وعي أو عدم وعي.. فهذه جميعا دول غير ديمقراطية أصلا.. فكيف تدعم ثورة من أجل الحرية على تخومها!!!
لقد استخدمت هذه الدول ما يعرف في علم النفس بالتحوير.. وهي تعني في السلوك تحوير القضية التي تثير الخوف لديك عن مضمونها.. وهكذا تحاول سياستها تحوير الثورة السورية من اجل العزة والكرامة إلى صراع طائفي تستطيع من خلاله تجيش الأغلبية السنية في دولها وإعادة التماسك حولها كحامية لهم في وجه النفوذ الشيعي المتنامي لتأجيل مطالب الاصلاح والتغير الديمقراطي "وهي نفس سياسة النظام السوري  أصلا في استخدام الصراع العربي الصهيوني لتأجيل الاصلاح"
كما أنها تحاول أن تضبط إيقاع الحراك لاستخدامه كورقة في الصراع الإقليمي والدولي مع إيران.. وهذا لن يكون في صالح الشعب السوري أو الشعوب العربية قاطبة على المدى المتوسط  والطويل..
ونختم أيضا بما بدأنا به: ربي أجرني من أصدقائي وأشقائي.. أما أعدائي فإني أعرفهم وأنا كفيل بهم
يتبع
    

06‏/03‏/2012

اصدقاء سورية 3 " الأعدقاء ا "

سنغير معادلاتنا اليوم كرمى لعيون عمتنا أمريكا
  1. إن كل رصاصة قتلت واحدا من أبنائنا هي أمريكية.. إن عدونا الاول هو أمريكا.. أمريكا.. أمريكا (هل هذا كان زمان.. أيام الصراع العربي الصهيوني في ذروة المد القومي؟؟! حين قيل هذا الكلام)
  2. لا أصدقاء دائمين في السياسة، ولا أعداء دائمين.. بل هناك فقط مصالح دائمة
  3. عدو عاقل خير من صديق أحمق
إذا كانت روسيا صديقنا الأحمق!! فهل أمريكا هي عدونا العاقل؟؟
أم أننا صدقنا أن أمريكا صارت صديق (كما تقول قائمة الحضور في مؤتمر تونس العتيد)
لنستعمل المعادلة الثانية ونقول أن أمريكا لا صديق ولا عدو.. ولنفتش عن المصالح؟ وهل هي وحدها التي تبني الموقف الأمريكي اتجاه سورية؟
لقد كشف كسنجر  ما بين سطور مذكراته عن المصلحة الدائمة  الرئيسية لأمريكا في سورية وهي –وهذا قد يثير التعجب- بأنها ضمان الاستقرار في هذه البقعة الحاكمة في بناء الاستراتيجات الدولية (وهذا ايضا تعبير  للمستر دالس وزير الخارجية المؤسس للاستراتجية الامريكية بعد الحرب  العالمية الثانية)
والأغرب من ذلك أن كسنجر يكشف أن ذلك قد أصبح موضع اتفاق مع الاتحاد السوفياتي آنذاك بعد نقاشات مطولة معهم (وهذا الكلام كان في مطلع الستينات أيام كان عضوا في مجلس الامن القومي الأمريكي.. وكانت سورية بالنسبة لتقييمهم غير مستقرة وتشكل مصدر قلق دائم بالنسبة لاستراتيجتها في المنطقة)
لو قلنا ان امريكا هي عدو عاقل  سنكون قد ظلمنا الحقيقة.. فتصرفاتها حيال المنطقة من الدعم المطلق للكيان الصهيوني.. وحربها على العراق  وافغانستان.. ودعم الانظمة الديكتاتورية.. كفيلة بنفي ذلك قطعا.. ولا اعتقد انها تقل حماقة عن صديقنا الروسي الذي كان موضوع مقالنا السابق
لكن ما يمتاز به الأمريكان حقيقة، هو سرعة القراءة للمتغيرات السياسية والتعامل معها، لدرجة توحي للمشاهد الخارجي أنها وراء تلك التغيرات .. ولديها المرونة اللازمة للتأقلم مع الوقائع الجديدة الى درجة تكون عصية على التصديق أحيانا بالأخص سهولة تخليها عن الحلفاء والعملاء باختلال الدور التكتيكي الذي يصب في إطار استراتيجاتهم (واقرب الأمثلة تخليهم عن زين العابدين وحسني مبارك)
وفي نفس هذا الإطار يمكن ان نفهم تغير موقف الإدارة الأمريكية من النظام السوري الذي حقق الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة لعقود.. ولكن هذا لا يعني أنه اكتسب صكا أخضر دائم (غرين كارد)، فبمجرد تيقنها عن عجزه في ذلك أحرقت ورقته دون تردد..
وأنا على ثقة تامة بأن أمريكا لو كان لديها الثقة بنسبة في أدنى حدود المعقول أن النظام السوري يستطيع أن يأقلم وضعه مع المتغيرات الجديدة ويستطيع إعادة السيطرة على الوضع وضمان الاستقرار لما غامرت في إفساح المجال لأي بديل غير معروف.. أو غير مجرب
لقد غيرت أمريكا منذ وقت مبكر نظرية العميل الذي يتلقى الأوامر والتعليمات المباشرة من تجاربها الأولى (وهذا موضح بشكل جلي في كتابي حبال من رمل ولعبة الأمم) الى نظرية العميل الذكي أو المرن.. الذي يحقق الإسترايجيات العامة مع إعطاء حريات واسعة له في تعامله مع وضعه الداخلي و اتخاذ التكتيات التي تناسبه حتى وان لم ترق في كثير من الأحيان للإدارة او حتى لو تصادمت مع بعض سياساتها فقد أيقنت أن ذلك هو الأنجع والأدوم بالنسبة لها.. ولكن بنفس الوقت لا تعطي أية مرونة أو تسامح بالنسبة لما يتعلق باستراتيجتها ومصالحها الدائمة.. وكما قلنا لا صديق دائم في السياسة..
سيقول لي البعض إن أمريكا بموقفها الحالي من النظام هي صديق  (ولو كان مؤقتا)
أرد بملاحظة صغيرة لفتت نظري: إن أمريكا حتى الآن لم تقل كلمة يجب إسقاط النظام في سورية.. بل تقول أن على بشار الأسد مغادرة السلطة.. فهل تظنون معي أنه لا فرق بين العبارتين؟؟!!
واختم بما كنت بدأت به: ربي أجرني من أصدقائي...
يتبع

04‏/03‏/2012

أصدقاء سورية 2 (الصديق الأحمق)

في البداية نذكر بالمعادلات الثلاث التي ذكرناها في الجزء الاول
عدو عاقل خير من صديق أحمق
ربي أجرني من اصدقائي.. أما أعدائي فإني أعرفهم.. وإني كفيل بهم
تختلط عندي الوجوه، العدو يصبح صديق!!
إن أكثر من يجسد هذه المعادلات اليوم هي صديقتنا روسيا –وريثة الاتحاد السوفياتي السابق- التي رغم المرارة والألم  لا يجب ان تنسينا عقودا كانت فيها الداعم الرئيسي لنا في المحافل الأممية (بما تتيحه معادلات التوازن الدولي) وكانت الساتر الطبيعي في وجه الهيمنة الغربية على المنطقة، والمورد الرئيسي للسلاح يوم عز السلاح (وان يكن وفق تبادل مصالح مقبول).. والممول لبعض مشاريع التنمية الكبرى..
ولا يجب ان ينسينا ألم الجرح من الفيتو الروسي الأخير دستة من الفيتويات الأمريكية ضد الأمة العربية.. ولا يجب ان ننسى – ولا أظننا نسينا ونحن في قمة المحنة- أن الدم السوري ليس أغلى من الدم الفلسطيني أو الدم العراقي.. وأن من ساهم في سفكها قد ساهم في سفك دمنا أيضا.. وإلا سنكون قد انتقلنا إلى المعادلة الثالثة دون أن نشعر
ويجب ان لا يغيب عنا –ونحن في ذروة الخطب- أن رفض أي دور روسي في المنطقة، أو في حل الأزمة السورية، هو ارتماء في الحضن الأمريكي.. وان القطيعة المطلقة مع إيران هي خلل واضح لمصلحة المشروع التركي بالأخص في ظل الاضطراب في عمقنا الاستراتيجي في مصر والعراق.. (وأنا مدرك أن هذا الكلام مر جدا، بالأخص في هذه المرحلة.. لكنها السياسة كتجرع كأس العلقم)
فالسياسة هي التعامل دائما مع واقع صعب، وأظن أنه ليس خاف على أحد الآن كم هي معقدة المعادلة السورية في ظل عالم مضطرب!!
لكن يبقى لنا من جهة اخرى ما هو أكثر بكثير من العتب على موقف صديقتنا الحمقاء.. والذي يتجاوز بحماقته الواقع السياسي الجديد بشكل عصي على الفهم أو التصديق!!
وكل ما يمكن ان يوصف كمخاوف من قبلهم حيال الوضع السوري غير واقعي لحد الوهم أو الفوبيا.. أكثر منه تحليلا سياسيا أو تخطيطا استراتيجيا في منطقة قدر الله لها أن تكون حاكمة للمعادلات الدولية..
فأي استراتيجية حمقاء! تلك التي تبنى على مصالح مع نظام حاكم مهما كان وضعه على حساب العلاقة مع الشعوب، بالأخص الشعب السوري الذي رفض – بكل أطيافه وتوجهاته- الهيمنة الغربية منذ الخمسينات، وقرر التوجه شرقا للهروب منها.. فالشعب السوري هو الذي فرض العلاقة المميزة مع الاتحاد السوفياتي قبل الأسد، وقبل البعث.. وهو الأبقى والأقدر –رغم كل الظروف- وهو الأجدر بالاعتبار في اية علاقة لها صفة الاستراتيجية
أما  القلق على صادرات السلاح الروسي؟؟ فليس  له محل من الإعراب، فأي عاقل يدرك أنه من المستحيل على أي نظام جديد في سورية أن يقوم بتغيير مصادر تسليحه بجرة قلم، بعد نصف قرن من الاعتماد على السلاح الروسي.. إلا في حالة واحدة فقط؟ وهي تدمير الدولة السورية برمتها.. وذلك سيخلق واقعا جديدا يتجاوز في معطياته بضع مليارات من صادرات السلاح
وحتى إذا كان الموضوع بالنسبة لها متجاوزا الحالة السورية لما هو ابعد منها في السياسة الدولية وموضع روسيا في خارطتها فإن ذلك يقتضي التفكير في وضع المنطقة ككل من مصر إلى العراق.. مرورا بالخليج العربي.. و رغم أهمية سورية الاستراتيجية في معادلات المنطقة فإنها بنفسها غير كافية ولا ضامنة لبناء أية استراتيجية ثابتة حيالها من قبل دولة كبيرة او تسعى لتكون عظمى!!!
ولم يبق إلا أن تكون السياسة الروسية الحالية مبنية على خطوات تكتيكية متعلقة بمصالح النخبة الحاكمة مرحليا.. وبوتين تحديدا..
والغريب أن تكون السياسة الداخلية لها قائمة على ترويج مقولات ونظريات من نفس نمط ما يطرحه النظام السوري (من أن هناك مؤامرة دولية عليها بهدف تفكيك الدولة الروسية نفسها وسحق دورها الدولي..) وذلك يدفعها الى التشدد المطلق للظهور بمظهر الممانع للهيمنة الأمريكية على العالم
والقيصر الروسي الجديد مغرم بهذا الدور، ويتقمصه جيدا على الاقل حتى العبور إلى مرحلة استعادة السلطة المطلقة بالانتخابات (التي ليست بعيدة عن الطريقة العربية قبل الربيع..)
فإذا كان ما قلناه صحيحا فسوف نشهد تغيرا ملحوظا في الموقف الروسي بعد الانتخابات.. وهذا ليس بعيد..
أما إذا استمر الموقف الروسي على حاله فسوف يكون قد انطبق عليه المثل العربي:
لكل داء دواء يستطب به................إلا الحماقة أعيت من يداويها 
يتبع