11‏/12‏/2012

دستور من خاطركم


 
"دستور من خاطركم يا أسيادي" أظن أن هذه العبارة التي كان يستخدمها الصوفيون، وبعض الدجالون لإبعاد الشياطين كي لا تمس البشر وتسبب لهم لوثة عقلية أو ما شابه..

وكما يقول المثل الانكليزي: الشيطان يسكن في التفاصيل.. "دستور من خاطركم.."

بصراحة التفاصيل التي أغرقنا بها الإعلام حول الدستور المصري قد خرج منها شياطين الإنس والجن.. وقد مستني، بل سكنتني، وسببت لي لوثة عقلية جعلتني غير قادر على فهم الكثير من المواقف التي لم أجد ما يحكمها من منطق سياسي أو عقلاني من قبل جميع الأطراف بلا استثناء!

هل من المعقول أن يكون كل هذا الخلاف والصراع –الذي أُريقت فيه الدماء- حول صياغة الدستور؟! "دستور من خاطركم.."

لقد ألقيتم كل أفاعيكم أمامي، فدعوني ألقي كلماتي لعل الله يهبها الروح فتلقف ما كانوا يأفكون، أو بعضه فهذا يكفنِ

فإن بقيت مجرد كلمات، فعسى أن تجد من لديه القدرة لإعادة خلقها وينفخ فيها من الروح فتتمثل بشرا سويا

أظن أن مشكلتنا ليست أبدا في صياغة دستور أو قوانين أو نصوص ترسم شكل الدولة وتحدد طبيعتها.. لنتصارع على هذه الصياغات فوق الأشلاء، وسط الفوضى والخراب دون طائل

مشكلتنا أعمق من ذلك بكثير، وأقدم من ذلك بكثير.. إنها مشكلة أو إشكالية عصر النهضة العربية التي بدأت من مصر أواخر القرن الثامن عشر، عندما صحونا فجأة لنرى العالم من حولنا قد قطع شوطا كبيرا في بناء النهضة، وتحديد الهوية وبناء الدولة المعبرة عن المجتمعات المختلفة، وقد قام نفر غير قليل من رواد عصر النهضة ببذل جهود خارقة في سبيل جسر هذه الهوة التي تفصلنا عن العالم المتقدم "الذي كان وقتها أوربا"

لكن هذه الجهود -رغم صدقها وجديتها- إلا أنها لم تستطع أن تحدث التغييرات المطلوبة في المجتمع وبنيته الثقافية والاجتماعية.. فبقيت حالة فوقية مفصولة عنه.. ولم تستطع أن تجري عملية تصفية الماضي، واجراء القطيعة المعرفية اللازمة لإسدال الستار فوق الفصل السابق لبدء فصل جديد، كما حدث في دول أوربا زمن النهضة

وأهم سبب للفشل أنها لم تكن حصيلة تجارب فعلية عميقة تحدث هذا التغيير من ناحية اولى، ولأنها كانت قائمة على انتقائية غير مبيئة على دراسة واعية للواقع لتخلق مفاهيم جديدة تكون عنصرا أصيلا في الوعي العربي

وابرز الأمثلة على ذلك هو موضوع  الدستور والقوانين الناظمة للدولة العربية الحديثة، ففي تلك المرحلة التي بدأ فيها عصر النهضة العربية كان في أوربا مدرستين مختلفتين تماما، أولهما المدرسة الفرنسية التي كانت تؤمن بضرورة توثيق وصياغة نصوص واضحة ومفصلة تحكم العلاقات بين مكونات المجتمع وقواه السياسية والاجتماعية والمهنية.. وكان لديها إيمان راسخ –بحكم تجربتها الخاصة- بأن هذه النصوص تمتلك القوة في ذاتها بمجرد صياغتها وإقرارها عبر أطر محددة "استفتاء.. تصويت من جهة منتخبة أو مختارة.." لذلك نجد مجلدات ثقيلة من القوانين والدساتير وتفسيراتها وشروح لنصوصها وآلياتها وفلسفتها في المكتبة الفرنسية

في حين أن المدرسة الإنكليزية كانت تؤمن بأنه ليس مهماً وجود نصوص للقوانين أو الدساتير أو إقرارها بأي طريقة، بل المهم أن تكون هذه القوانين أو المفاهيم الدستورية مؤسسة في وعي الناس وإيمانهم بها واستعدادهم للتقيد الطوعي التلقائي بها، لأن النصوص لا حول لها ولا قوة.. وأن أي نص مهما كان إبداع صياغته يبقى حبرا على ورق، ما لم يكن لدى الناس الاستعداد للتقيد به وتطبيقه من تلقاء أنفسهم، وكان إيمانهم راسخا –بحكم تجربتهم- أن النصوص ضعيفة في حد ذاتها وإذا كان لها من قوة فهي من قناعة الناس بتطبيقها حتى لو كانت غير مكتوبة أصلا، لذلك بقيت المملكة بدون دستور مكتوب باستثناء وثيقة الحقوق التي تم الاتفاق بين النبلاء في ذلك الوقت مع الملك عليها وهي لا تتجاوز صفحة واحدة

وقد أُثير هذا الجدل أيضا في الولايات المتحدة عند تأسيس الدولة المستقلة، هل من الضروري كتابة دستور أم لا؟

يتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق