وقد
أُثير هذا الجدل أيضا في الولايات المتحدة عند تأسيس الدولة المستقلة، هل من
الضروري كتابة دستور أم لا؟
وفي
النهاية، وبحكم التجربة الخاصة توافق الآباء المؤسسون على كتابة نص دستوري
مفتوح..عام ومرن.. يحدد المبادئ الأساسية فقط التي تقوم عليها الدولة وعلاقاتها..
لذلك لم يضطر الأمريكيون إلا لتعديلات لا
تتجاوز عدد أصابع اليد عبر ثلاثة قرون من عمر الدولة تناوب عليها أكثر من خمسين
رئيسا!
أما
في الواقع العربي فقد كان اتجاه آباء النهضة العربية بانتقاء المدرسة الفرنسية دون
غيرها بحكم أن الاحتكاك الأول مع الحضارة الغربية كان عبر الحملة الفرنسية على
مصر، والتي لم تكن حملة عسكرية فحسب، بل حملة ثقافية مكثفة أيضا سعت لخلخلة مفاهيم
المنطقة العربية الثقافية والاجتماعية أيضا، عكس ما فعله الإنكليز اللذين كان همهم
السيطرة العسكرية والاقتصادية فحسب، هذا من جهة أولى أما الثانية فكانت اختيار
محمد لفرنسا لإرسال البعثات التعليمية الاولى إليها فتخرج من جامعاتها الرعيل
الأول الذي لعب دورا في تكريس هذا الاختيار الانبهاري دون دراسة معمقة للفوارق،
ودون تجربة خاصة تكرسه على أرض الواقع.. ومن هنا نلاحظ انتقال مفاهيم "قوة
القانون.. سيف القانون.. سقف القانون.." إلى الوعي العربي دون مناقشة جدية
لانعكاسه على الواقع، ودون إدخال هذه المفاهيم في عمق الثقافة العربية ووعيها
الشعبي
وانشغل
آباؤنا المؤسسون لعصر النهضة بصياغات قانونية ودستورية قوية وبراقة.. لكن في
الحقيقة لم يكن لها أي مردود على الأرض.. فبقيت كل الدساتير والقوانين حبرا على
ورق، وليس لها أية قوة كما كانوا يتخيلون
فدستور
عام 23 في مصر الذي جاء بعد ثورة زغلول كان من أروع ما يكون من حيث الصياغة.. لكنه
ظل بعيدا عن الواقع المصري حتى ثورة يوليو 52 التي جلبت مفهوم جديد لكنه لا يختلف
بفوقيته واتخاذه نفس المنطق الذي يؤمن بأن فرض البنية الفوقية سوف يؤدي الى تغيرات
في البنية التحتية بمفاهيم كانت براقة "الكفاية والعدالة.. تذويب الفوارق..
المساواة.. الوحدة" ولكنها أيضا ظلت حبرا على ورق لم يطبق منها شيئا يذكر على
أرض الواقع، ولم تدخل في مفاهيم الوعي الشعبي الذي كان من المفترض أن يكون حاملها الأساسي.. وهكذا
دوليك
فالشق
واسع بين ما قاله الانكليز: أن القانون ضعيف وعلى الناس حمايته.. وأن النصوص ميتة
و على الناس بث الروح فيها.. وبين ما قاله الفرنسيون: أن القانون قوي، ويفرض نفسه
على الناس بمجرد صياغته وإقراره
وبين
ماضي نراه ونؤمن أنه كان مجيدا، وحاضر نشعر أنه أليم.. مازلنا نبحث عن أنفسنا دون
أن نخوض تجربتنا الخاصة التي تؤسس دولنا وتؤسس لنهضة لها من الأصالة ما يجعلها
تدخل في عمق وعينا ولنطبقه على أرض الواقع قبل صياغته على الورق!
فماذا
يفيدنا أن يقر الدستور بمساواة المواطنين؟ إذا كان التميز يقبع في عمق ممارستنا
السياسية والاجتماعية! من التميز على أسس الطائفية أو العائلية أو القبلية أو
الحزبية أو المناطقية..
وبماذا
يفيد أن نقر بحقوق الإنسان في النصوص؟ دون أن يكون هناك قناعة لدى "الشرطي
ورئيس المخفر والموظفين.. إلى المسؤولين.." بضرورة احترام هذه الحقوق وأن
يتعاملوا مع كل المواطنين كبشر يتمتعون بهذه الحقوق فقط كونهم بشرا بغض النظر عن
الأصل والانتماء والمعتقد..
وماذا
يضرنا لو تأخر إقرار الدستور أو النصوص القانونية لسنة أخرى أو سنتين؟ حتى يتم
التوافق على حد أدنى يتم إقراره والالتزام به بدل هذا الصراع المجرد لصياغة نصوص
يضعها الجميع خلف ظهورهم قبل إقرارها أو بعد إقرارها؟!
أظن
أن المهم أن تترسخ القناعة بهذه المفاهيم وضرورة تطبيقها، وأن تكون هذه القناعات
منطلقا للممارسات على الأرض لا أن تكون حبيسة الأدراج أو الأوراق الصفراء فهي بلا
فائدة وبلا قوة وبلا روح..
وإن
أهم ما يعطيها الروح هو شعور الناس أنها نابعة من واقعهم، ومتسقة مع تراثهم، حتى
ولم تكن براقة أو مبهرة في صياغتها، وحتى لو لم تعجب الغرب أو الشرق ليمنحونا
شهادة حسن سلوك للمعاملات الرسمية بينما يكون ما على الأرض حاملا كل شياطين الماضي
التي تظهر في سلوك كل موظف أو مسؤول أو رجل أمن من أصغر دائرة حتى رئيس الجمهورية
بغض النظر عن القانون والدستور.. و"دستور من خاطركم يا أسيادي"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق