08‏/08‏/2011

الجيش السوري أزمة الماضي وعقدة المستقبل ح1

اعتذر أولا لغيابي طوال الاسبوع الدامي الماضي، فكلما حاولت ان اكتب كان القلم يشعرني بالخذلان أمام هدير الدبابات والقذائف.. وعندما نجحت وجدت نفسي خارج جلدي.. واعتذر ثانيا عن استعارة هذا العنوان من اسم كتاب (حزب البعث أزمة الماضي وعقدة المستقبل) صدر آواخر الستينات او آوائل السبعينات.. ولكن حزب البعث – كما قال باتريك سيل في أخر مفالاته – قد أصبح قوقعة فارغة تتقاذفها الأمواج وتستدل منها  فقط على وجود كائن حي في قديم الزمان..
فلا شك أن حزب البعث في حالة موت سريري من عشرات السنين ولا يستطيع احياء الموتى غير الله.. وبعيد عن حصول معجزة فانه لن يكون لحزب البعث دور في مستقبل سورية.. لكن ذلك بالتأكيد لا ينطبق على الجيش السوري الذي من المستحيل تجاوز المرحلة الانتقالية دون مساهمة فعالة من الجيش الذي مرت منذ ايام ذكرى تأسيسه.. وهنا العقدة والأزمة معا فأزمة الماضي المرتبط بنشوء هذا الجيش على يد المستعمر الفرنسي الذي خطط لتكوينه من الأقليات المختلفة بالأخص الأرمن والشركس أولا ثم العلويين والدروز والاسماعليين.. إضافة لبعض الضباط من العائلات الكبيرة الدمشقية والحلبية المرتبطة به او المعتدلة اتجاهه.. وقد راعت ان تبقيه في حالة ضعف من حيث التسليح والتدريب.. ومن ثم كان عليه بعد 25 شهرا من الاستقلال أن يخوض تجربة مريرة في حرب 1948 التي كان تجرع كأس الهزيمة العسكرية فيها له طعم المرارة عند معظم الضباط في الجيش آنذاك وبمنطق التحوير وبتجاهل كامل للواقع تم رمي الجريرة على القيادة السياسية بالكامل.. وتبلور الحل في ذهنهم بالاستلاء على السلطة السياسية وخاض أربعة انقلابات في اقل من عامين.. لقد أثر ذلك على انضباط ومهنية هذا الجيش إلى الدرجة انه بعد سقوط الشيشكلي صاحب الانقلاب الاطول قد عجزت القيادة السياسية والكتل العسكرية المتباينة عن التوافق على رئيس للاركان الى درجة استجلاب ضابط لبناني اسمه شوكت شقير ليكون رئيس اركان الجيش السوري
وبعد انتخابات 1954 البرلمانية التي كان من المأمول أن تؤسس لحياة ديمقراطية سليمة بالأخص أنها جاءت بأول نائب شيوعي في العالم العربي وشهدت صعودا للأحزاب القومية وفي رأسها حزب البعث وقتها الذي استطاع ان يأخذ منصب رئيس البرلمان السوري للمرحوم اكرم الحوراني وبنفس الوقت حافظت على تواجد كل الطيف السياسي السوري..
لكن بكل أسف بدلا من تكريس التجربة الديمقراطية وبنتيجة هاجس الانقلابات والركون لقوة الجيش سعت الاحزاب قاطبة الى تشكيل كتل عسكرية من الضباط وصف الضباط.. ولم يستثنى من ذلك الاحزاب التي كانت توصف بانها تقدمية مثل حزب البعث والشيوعي..
وتدريجيا انتقل القرار السياسي من الدوائر المدنية ومن صفوف القيادات السياسية والاحزاب.. الى اطار الجيش والكتل العسكرية.. حتى وصلت لحد السيطرة الشاملة على القرار السياسي في العام 1958
وفوجئ عبد الناصر ذات ليلة بوصول وفد مكون من 36 ضابط من الجيش السوري دون سابق اعلام ليطلبوا مقابلة عاجلة معه.. والمفاجأة الاكبر كانت عندما طلبوا منه -باسم الشعب السوري- اعلان وحدة اندماجية فورا بين مصر وسورية.. وحتى محمود رياض الذي كان سفير مصر لدى سورية آنذاك -والذي كان يعمل ليل نهار من اجل بناء خطوة وحدوية ما مع سورية- قد فوجئ بوجودهم في مصر وباستدعائه على عجل لحضور اللقاء  وكانت المفاجأة الثانية لعبد الناصر عندما قال لهم بان ذلك غير ممكن بين حكومة ومجموعة من الضباط ويجب ان يكون الطلب من الحكومة او رئيس الجمهورية.. فكانت اجابتهم: سنجلب لك من تريد منهم باتصال هاتفي.. وكان سؤاله المفعم بالدهشة هل الحكومة لا تعلم بوجودهم في مصر؟!! فلم يستوعب رأس الضابط  السابق ابن المؤسسة العسكرية المصرية كيف يمكن لهذا العدد من قادة الجيش ان يخرج من البلد دون علم الحكومة!!
لقد ظل هذا الموقف عالقا في ذهنه حتى بعد حضور القيادة السياسية واعلان الوحدة، وقد طلب تقريرا مفصلا عن وضع الجيش السوري. وكان قاب قوسين أو أدنى من حل الجيش السوري بالكامل وإعادة بناءه من جديد.. ولكن خشيته من التأويلات غير حسنة النية اتجاه الوحدة اوقفته والاهم خوفه من ردة فعل من خطوة قد تقرأ كمساس بالكرامة الوطنية السورية التي كان يقدرها حق قدرها.. فحل الأحزاب السياسية الذي أصر عليه كشرط للوحدة كان مطبقا في الإقليم الجنوبي أيضا وذلك لا يمكن قياسه على وضع الجيش.. ولكنه بالمقابل اعتمد مشروعا  لتطهير الجيش تدريجيا وقد أوكل ذلك لاثنين من أخلص الرجال للوحدة (جاسم علوان، عبد الحميد السراج) وقد سار المشروع بقوة قبل تدخل المشير عامر والعميد ابو النور اللذان فشلا في التنبوء بالانقلاب الذي سيقضي على الوحدة ذاتها.. ومن ضباط الأقليات الذين تم إبعادهم إلى مصر في مشروع التطهير تشكل ما سمي بالمجلس العسكري (محمد عمران، صلاح جديد، حافظ الأسد، أحمد المير،..) الذي سيقوم بالاستلاء على السلطة بعد انقلاب 8 آذار 1963 وقبل هذا كان هناك محاولة انقلابية في مطلع نيسان 1962 نجحت في الاستيلاء على جزء من سورية ممتد من اللاذقية ألى حلب وأعلن من إذاعة حلب بيان إعادة الوحدة مع مصر وهو ما كاد يمزق سورية لولا مؤتمر حمص الذي اوجد حلا توافقيا هشا انهار بانقلاب آذار الذي انخرط في تصفيات دموية في صفوف الجيش بالأخص بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة لجاسم علوان في تموز 1963 ولكن ذلك لم يجعل الجيش خاضعا للانضباط العسكري أو إعادته للمهنية العسكرية بل بالعكس فالترفيعات الاستثنائية التي منحت للمقربين لتعويض النقص في مستوى الضباط الذين تم تصفيتهم قد خلخل أهم ركائز العسكرية.. وفي نفس الوقت لم ينهي النزعات التصفوية والإنقلابية.. فتمت تصفيات دموية داخل المجلس العسكري نفسه.. وجاءت محاولة سليم حاطوم الانقلابية الفاشلة لتؤكد ذلك..
في هذه الظروف جاءت حرب 1967 التي هزم فيها الجيش هزيمة نكراء دون أن يتاح له فرصة القتال.. ولم يكن بالإمكان إلقاء اللوم على قيادة من السياسين فالعسكر كانوا قابضين على السلطة السياسية أيضا هذه المرة
بعد انقلاب حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني 1970 اختلف الوضع تماما بالنسبة للجيش بالأخص بعد حرب 73 التي كانت أيضا فرصة له لتصفيات بعضها دموي (العميد الأبرش) وبعضها بصفة الترفيع والتحويل الى المناصب الادارية..
لقد قام الأسد وبحكم رهاب الانقلابات بعملية اخصاء الجيش.. فقد تولى بنفسه – وحتى اخر حياته – عملية ترفيع ونقل الضباط على اساس الولاء المطلق والشخصي.. وكل من بدى منه أي خلل كان مصيره التسريح او النقل او التنكيل.. وقد اخضع الانتساب للجيش والامن لمعاير شديدة التدقيق وعلى اسس طائفية ومناطقية تعتمد في الغالب على ابناء القرى والمدن النائية.. وفوق كل ذلك فقد اخضع لرقابة شاملة من قبل اجهزة امنية متنوعة من الأمن العسكري والمخابرات الجوية والشرطة العسكرية والأنكى أنه وضع في كل وحدة ضابط أمن سياسي بسلطة وصلاحيات تفوق قائد الوحدة أحيانا.. كما قام بإنشاء وحدات وفرق على أطراف الجيش غير خاضعة لقيادة الأركان مثل (سرايا الدفاع، سرايا الصراع، الوحدات الخاصة.. ثم الحرس الجمهوري) وقد نالت هذه التشكيلات كل الميزات والميزانيات للتدريب والتسلح على حساب باقي الجيش الذي رزح تحت وطأة البيروقراطية والرقابة الأمنية التي أوصلته إلى درجة مزرية.. ورأس الأمر الفساد الذي نخر عظامه من الداخل حتى اصبح هيكلا مفرغا.. وضياع الانضباط وصل حدا لم يستطع ان يحتمله بعض اخلص الضباط للاسد لا سيما في مرحلة تصعيد باسل الاسد ومن بعده بشار حيث كان من المفروض عليهم السمع والطاعة رغم فارق الرتب فآثروا أو أجبروا على التنحي.. وعلى طول الخط كانت الواسطة والمحسوبية أهم من التراتبية العسكرية التي هي أساس المهنية العسكرية.. والولاء للنظام فوق الولاء للوطن وهي عماد فكرة الجيش العقائدي التي جاء بها حافظ الأسد وثبتها في الدستور بديلا عن مفهوم الجيش الوطني.. لقد جعل ذلك الجيش السوري أقرب لمجموعة مليشيات خاصة  مهمتها حماية  امن النظام منه لجيش وطني مهمته حماية الشعب والوطن.. والأشهر الأخيرة كانت كاشفا لا ستر عليه
تلك كانت أزمة الماضي، فأين عقدة المستقبل؟؟
يتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق