كنا قد استعرضنا في الحلقة السابقة أزمة الماضي لجيش بدأ تأسيسه على يد المستعمر، وكان صاحب أول تجربة انقلابية في الوطن العربي.. وحتى عام 1970 كان صاحب الرقم القياسي في عدد المحاولات الانقلابية الناجحة والفاشلة.. وساهم في صنع الوحدة، وساهم في صنع وتكريس الانفصال.. وكان أول جيش عربي يستخدم الدبابات في مواجهة شعبه.. واول جيش عربي يقصف مدنه.. واول جيش عربي يقتحم المساجد (وهذا ما لم تتجرأ عليه الدول الاستعمارية الأربع التي احتلت العالم الاسلامي قاطبة).. وكان في معظم مراحل تاريخ سورية مسيطرا على السلطة السياسية بشكل مباشر او غير مباشر.. وحتى بشار الأسد قد أصر والده أن يدخله من بوابة الجيش الى سدة السلطة
وفي نفس الوقت قد اوضحنا الوضع المزري الذي وصل اليه بسبب الفساد والعطالة وتسلط الاجهزة الامنية والتشكيلات الموازية وانهيار اسس المهنية العسكرية
في أحداث الأشهر الأخيرة في سورية بدا واضحا أن الجيش السوري هو أهم عامل في جملة المعادلات المعقدة بين صراعات الشعب والسلطة، الداخل والخارج، الاقليمي والدولي، السياسي والامني..
لقد حاول جميع الاطراف كسبه الى جانبهم، فالنظام اراده قوة ردع وقمع للحركة الاحتجاجية، والمتظاهرون بحت اصواتهم وهم ينادون: (حماة الديار عليكم سلام.. الشعب والجيش إيد واحدة.. ) وقدموا الزهور والحلوى والطعام والشراب لافراده في اكثر من منطقة ومدينة.. والغرب ألمح اكثر من مرة لتقصي إمكانية ان يقود الجيش او يضمن عملية انتقال آمن للسلطة.. او مرحلة انتقالية لاصلاح جذري.. وابدت بعض القوى الاقليمية تخوفها من مغامرة عسكرية غير محسوبة في ظل الفوضى، او من باب الهروب للامام..
وهذه هي بالضبط عقدة المستقبل. فوسط كل هذه التجاذبات يقف الجيش السوري بكل تناقضاته واثقال الماضي واعباء الحاضر وهاجس المستقبل يقف كعملاق برأس صغير عاجز عن التفكير والحركة باستثناء الاطراف العلوية التي تتحرك خبط عشواء بلا تركيز.. فلا النظام قادر على الاستفادة المرجوة منه، فلا هو جيش مدرب ولا دقة.. ولا تخطيط.. ولا وجود للمهنية او العقلية المؤسساتية.. فلا بيانات، ولا تصريحات، لا مؤتمرات صحفية، لا ناطق رسمي.. ولا وجود او ظهور لقيادة الاركان.. ولا مرجعية للاوامر.. لا معلومات عن الوحدات التي تتحرك او من يصدر اوامر التحرك.. كل ذلك من الطبيعي ان تكون نتيجته الفوضى والإشاعات والانشقاقات والأخطاء القاتلة التي كبدت الشعب السوري خسائر بشرية كبيرة وفي المقابل لم يحقق ما اراده النظام من اخماد جذوة الاحتجاج بل اججها أكثر
ولم تجد نداءات المتظاهرين للجيش، ولم تجد تسمية جمعة باسم حماة الديار صدى يذكر، فالجيش السوري ليس كالجيش المصري او التونسي من حيث البنية، والمهنية والانضباط والعقلية المؤسساتية.. فالانشقاقات التي تمت أوعصيان الاوامر لم تكن الا حالات فردية متكررة بدوافع مختلفة وليست نتاج قرارات جماعية ممنهجة..
لقد عجز الجيش ان يكون حاميا للوطن وعجز ان يكون حاميا للشعب والمجتمع، بل عجز حتى عن كف يديه من الولوغ في الدم السوري الحرام وعجز عن منع استخدام سلاحه ضد شعبه
كذلك يبدي عجزا في ترجمة الاشارات والتلميحات التي ترده للعب دور وسيط او ضامن او اي دور مهم.. ولم يبد اي رد فعل سلبي او ايجابي.. فردي او جماعي
وبالتأكيد انه غير قادر على خوض اي مغامرة محسوبة او انتحارية.. مع النظام او ضده.. فالعطالة اكبر بكثير من محفزات الحركة
هكذا تبدو عقدته عقدة صماء غير قابلة للحل.. فلا احد يستطيع تجاوزه او تجاهله، ولا احد يستطيع ان يستثمره اكثر مما تتيحه الظروف الموضوعية التي وضحناها سابقا، وتبدو كل الاحتمالات محفوفة بالمخاطر والمعضلات.. فلو انتصر النظام –لو كنت اظن ان هذا مستبعد- ستكون هناك معضلة ماهر الاسد وقادة الحرب، فهؤلاء الذين سيكون النظام مدين لهم بتثبيت حكمه لن يقبلوا ولن يقبل هو ان يبقى في الظل بعد ان تعود على امتلاك القرار، وفي نفس الوقت هؤلاء الذين تلوثت ايديهم بالدم و الجرائم سيكون من المستحيل قبولهم من المجتمع المحلي والدولي (نفس قضية حافظ ورفعت 1982 – 1984) وان تكن الظروف مختلفة ولن يكون حلها بالامر اليسير الذي تم سابقا
وفي حال انتصر الشعب واستطاع اسقاط النظام، فلن يكون من السهل تناسي الدور المخزي لجيش قد اقتطع باسمه اكثر من نصف الموازنات السورية ليكون لديه القدرة على حماية البلاد وتحرير الارض، ولم ينجح في كلتيهما بل ترك جبهتنا عارية لينتشر في المدن والقرى بدباباته ورشاشاته.. ولن تغيب عن المشهد جثث الشهداء وهواجس اللذين جرحوا واللذين اعتقلوا واللذين اهينوا على يديه..
في حال انتصر النظام ستكون أمامه معضلة الجيش الذي سيكون قد نجح فيما فشلت به الأجهزة الأمنية التي اعتمد عليها النظام طويلا ومن المستحيل بقائه على حاله فضلا عن مشكلات المنشقين والمتمردين والمتخلفين..
وإذا انتصر الشعب فلا يمكن حل الجيش أو تحيده أو اتخاذ اجراءات جذرية حياله بالسرعة المتوقعة لسبب بسيط هو أن سورية تقع في موضع استراتيجي من العالم لا يمكن تركه من القوى الدولية.. وفي موضع اقليمي خطير في قلب مثلث القوى الإقليمية المتصارعة إيران تركيا والكيان الصهيوني.. ولا يجب أن يغرر بنا السكون الذي يبديه الطرف الأخير الآن، ففي حال أنه أحس ببداية تشكل حالة وطنية ديمقراطية –بعد سقوط – سيكشف عن وجهه الحقيقي ولن نجد أي خيار مستبعد لديه.. كذلك إيران رغم تدخلها الكبير غير المباشر في دعم النظام فليس مستبعدا ان تزج بكل ثقلها لعدم خسارة حليف مهم وحتى لو سقط ستسعى بكل جهدها في عدم بناء استقرار في غير صالحها ولو حركت كل الخلايا النائمة في الداخل والعملاء على اليمين والشمال.. وينطبق ذلك على تركيا اذا ما أدت الفوضى في المرحلة الانتقالية لتهديد أمنها القومي..
إذن لابد من دور اساسي للجيش السوري في المرحلة القادمة وهنا الأزمة والعقدة.. أزمة تكوين وبنية وإرث من الفوضى والتمرد على السياسي من لحظة نشوئه حتى عام 1970 وأزمة دور وإرث من الخنوع والفساد والعطالة وافتقار المهنية منذ 1974 والآن وفجأة يصبح مطلوب منه أن يلعب دورا أو أدوارا هو غير مهييء لها وتقف دونها جملة من عوامل ذاتية وموضوعية ليس من السهولة تجاوزها أو تذليلها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق